فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي إن مالوا إلى السلم ودعوك إليه فاتجه أنت أيضًا إلى السلم، فلا داعي أن تتهمهم بالخداع أو تخشى أن ينقلبوا عليك فجأة؛ لأن الله تعالى معك بالرعاية والنصر، وأنت من بعد ذلك تأخذ استعدادك دائمًا بما أعددته من قوتك.
وقول الحق: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [الأنفال: 61].
أي إياك أن تتوكل أو تعتمد على شيء مما أعددت من قوة؛ لأن قصارى الأمر أن تنتهي فيه إلى التوكل على الله فهو يحميك. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى حيثية ذلك فيقول: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61].
أي أنه لا شيء يغيب عن سمعه إن كان كلامًا يقال، أو عن علمه إن كان فعلًا يتم. وإياك أن تخلط بين التوكل والتواكل، فالتوكل محله القلب والجوارح تعمل؛ فلا تترك عمل الجوارح وتدعي أنك تتوكل على الله، وليعلم المسلم أن الانتباه واجب، وإن رأيت من يفقد يقظته لابد أن تنبهه إلى ضرورة اليقظة والعمل، فالكلام له دور هنا، وكذلك الفعل له دور؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61].
ولنلحظ أن قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61].
هذا القول إنما جاء بعد قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وهي آية تحض على الاستعداد للقتال بإعداد العدة له.
ويريد الحق تبارك وتعالى أن ينبهنا إلى قوة المؤمنين واستعدادهم الحربي يجب ألا يكونا أداة للطغيان، ولا للقتال لمجرد القتال. ولذلك ينبهنا سبحانه وتعالى إلى أنهم لو مالوا إلى السلم فلا تخالفهم وتصر على الحرب؛ لأن الدين يريد سلام المجتمع، والإسلام لا ينتشر بالقوة وإنما ينتشر بالإقناع والحكمة. فلا ضرورة للحرب في نشر الإسلام؛ لأنه هو دين الحق الذي يقنع الناس بقوة حجته ويجذب قلوبهم بسماحته، وكل ذلك لشحن مدى قوة الإيمان، لنكون على أهبة الاستعداد لملاقاة الكافرين، ولكن دون أن تبطرنا القوة أو تدعونا إلى مجاوزة الحد، فإن مالوا إلى السلم، علينا أن نميل إلى السلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد سلامة المجتمع الإنساني. وإن كنتم تخافون أن يكون جنوحهم إلى السلم خديعة منهم حتى نستنيم لهم، ثم يفاجئونا بغدر، فاعلم أن مكرهم سوف يبور؛ لأنهم يمكرون بفكر البشر، والمؤمنون يمكرون بفكر من الحق سبحانه وتعالى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وإن جنحوا للسلم} قال: قريظة.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} قال: نزلت في بني قريظة، نسختها {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم...} [محمد: 35] إلى آخر الآية.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن أبزي رضي الله عنه: «أن النبي كان يقرأ {وإن جنحوا للسلم}».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإن جنحوا للسلم} قال: الطاعة.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} قال: إن رضوا فارض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} يقول: إذا أرادوا الصلح فأرده.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما. أنه قرأ {وإن جنحوا للسلم} يعني بالخفض وهو الصلح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مبشر بن عبيد رضي الله عنهما أنه قرأ {وإن جنحوا للسلم} يعني بفتح السين يعني الصلح.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} قال: نسختها هذه الآية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 29] إلى قوله: {صاغرون}.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وإن جنحوا للسلم} أي الصلح {فاجنح لها} قال: كانت قبل براءة، وكان النبي يوادع الناس إلى أجل، فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلهم، ثم نسخ ذلك في براءة فقال: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] وقال: {قاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] نبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويسلموا، وأن لا يقبلوا منهم إلا ذلك، وكل عهد كان في هذه السورة وغيرها وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتواعدون به، فإن براءة جاءت بنسخ ذلك، فأمر بقتالهم قبلها على كل حال حتى يقولوا لا إله إلا الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} الآية.
لمَّا بيَّن ما يهرب به العدو من القوة، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة، فالحكمُ قبولُ المصالحِة، والجنوحُ: المَيْلُ، وجَنَحَتِ الإبلُ: أمالت أعناقها؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل]
إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ ** بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ

يقال: جَنَحَ اللَّيْلأُ: أقْبَلَ.
قال النضرُ بن شميلٍ: جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ، ولفلان: إذا خضع له والجُنُوح الاتِّباع أيضًا لِتضمُّنه الميل؛ قال النَّابغة- يصفُ طيرًا يتبع الجيش: [الطويل]
جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ ** إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب

ومنه الجَوانِحُ للأضلاع، لميلها على حشو الشخص، والجناحُ من ذلك، لميلانه على الطَّائر، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة.
قوله: {لِلسَّلْمِ} تقدَّم الكلام على السلم في البقرة، وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسر السين، وكَذا في القتال: {وتدعوا إِلَى السلم} [محمد: 35]، ووافقه حمزة ما في القتال و{لِلسَّلْم} متعلق بـ {جَنَحُوا}.
فقيل: يتعدَّى بها، وب إلى.
وقيل: هنا بمعنى إلى.
وقرأ الأشهبُ العقيليُّ: {فاجْنُحْ} بضمِّ النُّون، وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم.
والضمير في لها يعود على السلم؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث؛ ومن التَّأنيث قوله [المتقارب]:
وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا ** وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَها

وقال آخر: [البسيط]
السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ ** والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفَاسِهَا جُرَعُ

وقيل: أثبت الهاء في {لها}؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 153] أراد: من بعد فعلتهم.
وقال الزمخشريُّ: السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها، وهي الحربُ.
وأنشد البيت المتقدم: السِّلم تأخذ منها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}
بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالرحمة والشفقة على الخلْق، وبمسالمة الكفار رَجَاء أن يُؤمِنوا في المُسْتَأنف فإِنْ أَبَوْا فليس يخرج أَحدٌ عن قبضة العِزَّة.
ويقال العبوديةُ الوقوفُ حيثما وقفت؛ إنْ أُمِرْتَ بالقتال فلا تُقَصِّرْ، وإنْ أُمَرْتَ بالمواعَدةِ فمرحبًا بالمُسَالَمةِ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} في الحالين فإنه يختار لك ما فيه الخيرة، فيوفِّقُك لِمَا فيه الأَوْلى، ويختار لك ما فيه من قِسمي الأمر- في الحربِ وفي الصُّلحِ- ما هو الأعلى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (62):

قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ثم صرح بالاستهانة بكيدهم فقال: {وإن يريدوا} أي الكفار {أن يخدعوك} أي بما يوقعون من الصلح أو بغيره {فإن حسبك} أي كافيك {الله} أي الذي له صفات العز كلها، ثم علل كفايته أو استأنف بيانها بقوله: {هو} أي وحده {الذي أيدك بنصره} أي إذ كنت وحدك {وبالمؤمنين} أي بعد ذلك في هذه الغزوة التي كانت العادة قاضية فيها بأن من معك لا يقومون للكفار فواق ناقة، ولعل هذا تذكير بما كان من الحال في أول الإسلام، أي إن الذي أرسلك مع وحدتك في مكة بين جميع الكفار وغربتك فيهم- وإن كانوا بني عمك- بسبب دعوتك إلى هذا الدين وعلوك عن أحوالهم البهيمية إلى الأخلاق الملكية، هو الذي قواك وحده بالنصر عليهم حتى لم يقدروا على أذى يردك عن الدعاء إلى الله مع نصب جميعهم لك ولمتبعيك شباك الغدر ومدهم إليكم أيدي الكيد ثم سلّكم من بين أظهرهم كما تسل الشعرة من العجين مع اجتهادهم في منعكم من ذلك، وأيدكم بالأنصار وجمع بين كلمتهم بعد شديد العدواة. اهـ.

.قال الفخر:

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)}
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح، ذكر في هذه الآية حكمًا من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح، لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالًا من الإيمان، فلما بنينا أمر الإيمان على الظاهر لا على الباطن، فههنا أولى ولذلك قال: {وَإِن يُرِيدُواْ} المراد من تقدم ذكره في قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ}.
فإن قيل: أليس قال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ} أي أظهر نقض ذلك العهد، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية؟
قلنا: قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير، إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك.
قال: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فالله يكفيك، وهو حسبك وسواء قولك هذا يكفيني، وهذا حسبي.
هو الذي أيدك بنصره.
قال المفسرون: يرد قواك وأعانك بنصره يوم بدر، وأقول هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته، ساعة فساعة.
كان أمرًا إلهيًا وتدبيرًا علويًا، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل، ثم قال: {وبالمؤمنين} قال ابن عباس: يعني الأنصار.
فإن قيل: لما قال: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين، حتى قال: {وبالمؤمنين}.
قلنا: التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة.
والثاني: ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة.
فالأول: هو المراد من قوله أيدك بنصره، والثاني: هو المراد من قوله: {وبالمؤمنين}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ}
بالصلح، يعني يهود بني قريظة أرادوا أن يصالحوك لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك، قال الله تعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله}، يعني إن أرادوا إن يخدعوك، فإن حسبك الله بالنصرة لك.
{هُوَ الذي أَيَّدَكَ}، أي أعانك وقواك {بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين}، يعني الأنصار وهم قبيلتان: الأوس والخزرج. اهـ.